دام برس
لم أستطع الانتظار كثيراً وراء الرجل على كوة الصرافة التي تمدّنا كل ثلاثين يوماً براتب يتيم نحيل لايقوى على المواجهة والصمود في حلبات الأسواق المستعرة سوى لأيام قليلة...؟
بادرته قائلاً: بالله عليك.. ألم تنتهِ من تعاملك الإلكتروني مع هذه الشاشة، لقد مللنا الانتظار.. انظر إلى هذا الطابور خلفك، الكل ينتظر قبض الراتب؟!.
مرت دقيقة أو أكثر.. لم أستطع معها قراءة ملامح وجه الرجل المتغضّنة.. ولا هو استطاع أن يستوعب ماقلته له!..
التفت نحوي قائلاً: سوف أدفع سبعة آلاف ليرة ثمناً لتعبئة المازوت الذي أنتظره مع دقات عقارب الساعة، رغم أنني سجلت دوراً في "كازية" حارتنا منذ أكثر من شهر ونصف، وإن حالفني الحظ أيضاً سأدفع 400- 500 ليرة ثمناً لأسطوانة الغاز التي هدّت حيلي وأنا "أنتعها" يومياً على كتفي من مركز إلى آخر.
وهنا انتفض كمارد القمقم وارتفعت نبرة صوته: هذا كان على السعر القديم.. فأسطوانة الغاز وبحسب تحليلات المعنيين في وزارتنا المختصّة تبلغ تكلفتها 500 ليرة، ولذلك فقد رفعوا سعرها إلى 400 ليرة، وبحسبة بسيطة أضف على هذا السعر الرسمي ما بين 150- 200 ليرة كسعر رائج، فسوف أدفع ما بين 500- 600 ليرة فقط لأرى وجه هذه العروس الحديدية!!.. وقبل أن أصل إلى البيت سوف أعرّج على البقال لأسدّد قسماً من ديوني التي لا يعدّلها ولن يعيدها إلى وضعها الطبيعي إلا حدوث معجزة، وسوف أشتري بعضاً من المواد التي لايمكن الاستغناء عنها وفي مقدّمتها البيض الذي صارت الدجاجة مع تحليق أسعاره فعلاً تبيض ذهباً، وذلك بعد أن بدأت تحسب تكاليف إنتاجها بالدولار وتعويض تعبها الإباضي باليورو.
ومع استرساله بالحديث.. بدأ الرجل الثاني الواقف ورائي بالتململ وأخذ ينبّهني إلى أننا تجاوزنا أكثر من وقتنا المفروض.. وبحركة لاشعورية استدرت نحوه متابعاً ما بدأه الأول:
وهل الأمر سوف يتوقّف عند هذا الحد؟.. فقد نسيت أن كوات فواتير الهاتف والكهرباء والماء بانتظاري هي الأخرى لتلتهم قسماً لايستهان به من راتبي المسكين.. وباعتباري من فئة المتقاعدين إدارياً وصحيّاً، فإن فاتورة أدويتي الدائمة تنتظر هي الأخرى الصرف.. وأن.. وأن..
ردّ الثالث: وأجرة البيت الذي أسكنه مع عائلتي..
وتابع الرابع: وتكلفة دراسة الأولاد التي قصمت ظهري..
ولم أعد أسمع كلام الخامس والسادس و.. إلى أن استعدتُ توازني بعد أن أصبحت وجهاً لوجه مع شاشة الكمبيوتر في الكوة المحترمة..
وبهمس المحب خاطبتها قائلاً:
بالله عليك.. لو كنت مكاننا ماذا تفعلين..؟!.
فجأة انطفأ ضوء عينيها.. وأعلنت أنها خارج الخدمة..!!.