دام برس :
ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن لولا دي سيلفا الرئيس التاريخي للبرازيل والذي صعد لسدة الحكم لأول مرة في يناير 2003 وأحدث معجزة حقيقية بإنقاذ بلاده من شبح الإفلاس والصعود بها إلى مصاف الاقتصاديات الواعدة..
ففي مطلع الألفية الثالثة كانت البرازيل تعاني من مشكلات عديدة، فعلى المستوى الاقتصادي حدث انخفاض كبير لقيمة الريال البرازيلي مقابل الدولار الأمريكي، وارتفعت نسبة التضخم، وزاد مستوى الدين العام سواء الخارجي أو الداخلي، وكانت البرازيل قد لجأت لصندوق النقد الدولي في الثمانينيات واقترضت منه أموالًا جديدة لتسديد القروض القديمة التي عجزت عن سدادها..
وخلال هذه الفترة تم نقل الثروة الوطنية خارج البلاد عبر بعض رجال الأعمال، مما زاد الوضع الاقتصادي سوءًا، وهو ما أدى لأزمة ثقة في الاقتصاد وتراجع في معدلات النمو، بالإضافة إلى مشكلة النقص الحاد في توصيل الكهرباء إلى مساحات شاسعة من البلاد، وهو ما عاق مشروعات التنمية الزراعية والصناعية بشكل كبير.
أزمات متلاحقة
وعلى المستوى الاجتماعي عانت البرازيل من مشكلات حادة مثل الفقر والبطالة وانتشار الجريمة خاصة تجارة المخدرات والتسرب من التعليم وتردي أحوال المدارس بشكل عام، هذا بالطبع بخلاف التفاوت الطبقي الحاد والفرز الاجتماعي بين الأغنياء (غنى فاحش) والفقراء (فقر مدقع)، حيث يشكل الأغنياء شريحة محدودة مقابل الفقراء الذين يشكلون الغالبية العظمى من المواطنين..
وبذلك غابت العدالة الاجتماعية، ويمكننا القول أن البرازيل طوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات كانت تعاني من أزمات متلاحقة كانت نتيجتها تسريح ملايين العمال وخفض أجور باقي العاملين وإلغاء الدعم مما جعل الملايين يهبطون تحت خط الفقر، هذا جزء من واقع المجتمع البرازيلي عشية صعود لولا دي سيلفا لسدة الحكم.
ولولا دي سيلفا الذي ولد في أسرة فقيرة، واضطر لترك التعليم في سن العاشرة بسبب الفقر الشديد، وعمل كماسح للأحذية، وتمكن وهو شاب من الانخراط في العمل النقابي، وأسس أول حزب يساري للعمال في البرازيل، ثم انتخب نائبًا في البرلمان، وترشح للرئاسة ثلاثة مرات ونجح في المرة الرابعة ليصبح أول رئيس يساري منتخب في تاريخ البرازيل..
ومنذ صعود لولا دي سيلفا لسدة الحكم أحدث نهضة حقيقية بالتركيز على الصناعة والتعدين والزراعة والتعليم، وأطلق كلمته الشهيرة "لابد أن نعتمد على أنفسنا وبسواعد أهلنا فاللجوء إلى الآخر سيدمر بلداننا"، وقام لولا دي سيلفا بكسب ثقة رجال الأعمال فلم يتجه لتأميمهم بل قال "التقشف ليس أن أفقر الجميع بل هو أن تستغني الدولة عن كثير من الرفاهيات لدعم الفقراء"، ثم قدم لهم تسهيلات كبيرة في الاستثمار ساعدتهم في فتح أسواق جديدة.
وبعد ثلاث سنوات فقط عاد 2 مليون مهاجر برازيلي بأموالهم وودائعهم وجاء معهم مليون ونصف أجنبي للاستثمار والحياة في البرازيل، وخلال فترته الرئاسية الأولى سدد لولا دي سيلفا كل مديونية صندوق النقد الدولي، بل أن الصندوق اقترض من البرازيل 14 مليار دولار أثناء الأزمة العقارية العالمية في 2008، وأعيد انتخاب دي سيلفا في 2006 لولاية جديدة..
حرب غزة والهولوكوست
وعند انتهاء ولايته الثانية في 2010 طلب منه الشعب أن يستمر ويعدل الدستور لكنه رفض بشدة وقال كلمته الشهيرة "البرازيل ستنجب مليون لولا دي سيلفا ولكنها تملك دستورًا واحدًا"، وبعد 12 عام من تركه للسلطة يعود دي سيلفا من جديد بعد إعادة انتخابه في نهاية عام 2022، في ظل ظروف أصعب من تلك التي شهدتها البرازيل قبل ولايته الأولى في عام 2003، أملًا في إنقاذها من جديد.
وخلال العام المنصرم من ولاية لولا دي سيلفا الجديدة لم نسمع صوته كثيرًا، لكنه خلال الأيام القليلة الماضية أصبح حديث العالم أجمع، بعد تصريحاته النارية لبعض الصحافيين في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا ضد العدو الصهيوني على هامش قمة للاتحاد الأفريقي حيث أكد أن “ما يحدث في قطاع غزة ليس حربًا، بل إبادة”..
وأضاف "ليست حرب جنود ضد جنود، إنها حرب بين جيش على درجة عالية من الاستعداد، ونساء وأطفال"، ثم تابع قائلًا "ما يحدث في قطاع غزة مع الشعب الفلسطيني لم يحدث في أي مرحلة في التاريخ، إلا حين قرر هتلر أن يقتل اليهود"، وبذلك شبه دي سيلفا ما يحدث بحق المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة من قبل العدو الصهيوني بمحرقة اليهود التي قام بها هتلر إبان الحرب العالمية الثانية والتي تعرف بالهولوكوست.
وجاء رد الفعل الصهيوني على تصريحات لولا دي سيلفا عنيفًا حيث قام وزير الخارجية الصهيوني باستدعاء السفير البرازيلي في تل أبيب لإبلاغه أن الرئيس البرازيلي سيظل "شخصًا غير مرغوب فيه" في إسرائيل، حتى يتراجع عن تعليقاته..
وبعد المقابلة صدر بيان عن مكتب وزير الخارجية الصهيوني يقول فيه "لن ننسى ولن نغفر، إنه هجوم معاد للسامية خطير، باسمي وباسم مواطني إسرائيل، فلتبلغ الرئيس لولا دي سيلفيا بأنه شخص غير مرغوب فيه في إسرائيل حتى يتراجع".
وردًا على هذا التطاول الصهيوني ووفقًا لمصادر إعلامية صهيونية منها هيئة البث الإسرائيلية والقناة 13 العبرية قام الرئيس لولا دي سيلفا بالكتابة على موقع " X "أنه لن يتخلى عن " كرامته مقابل الباطل" في إشارة واضحة إلى الدعوات الصهيونية التي تطالبه بسحب تعليقاته التي قارن فيها سلوك الصهاينة في غزة بالمحرقة النازية..
وردًا على تصريحات وزير الخارجية الصهيوني الذي قام بتوبيخ السفير البرازيلي في تل أبيب، قام دي سيلفا بسحب السفير البرازيلي من تل أبيب وطرد السفير الصهيوني من البرازيل، ويعد موقف لولا دي سيلفا موقفًا شجاعًا ليس فقط في مواجهة العدو الصهيوني بل والعدو الأمريكي الذي انزعج من تصريحات لولا دي سيلفا..
ورغم ذلك أرسلت أمريكا وزير خارجيتها بلينكن لحضور قمة العشرين والتأكيد على دعم الولايات المتحدة الأمريكية لرئاسة البرازيل للمجموعة، ولقاء الرئيس لولا دي سيلفا في محاولة لنزع الفتيل المشتعل بينه وبين العدو الصهيوني بسبب حرب الإبادة في غزة، ونتمنى أن يستمر لولا دي سيلفا على موقفه، هذا ما ينتظره كل أحرار العالم, اللهم بلغت اللهم فاشهد.