دام برس :
الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها البشرية في العصر الحديث هي أنها لم تكرّس الوقت والجهد اللازمين للكشف عمّا ارتكبه الإنسان الأبيض القادم من الغرب بحقّ الشعوب الأصلية، ولم تؤرخ تاريخاً حقيقياً ودقيقاً لما ارتكبه من جرائم الإبادة والتعذيب والحصار ونهب الثروات وتطوير أسلحة الدمار الشامل ضد الشعوب في المستعمرات من أفريقيا إلى آسيا إلى أميركا اللاتينية رغم أن آثاره واضحة، ومن تدمير لثقافات الشعوب واستخدام الإعلام لتزييف الحقائق وغسل الأدمغة وتدمير القيم الإنسانية وخاصة في دفن لغات الشعوب الأصلية واستبدالها بلغة المستعمر التي مازالت اللغة السائدة لسكان المستعمرات السابقة، بل أصبح بعض سكان المستعمرات يتغنون بما فعله الغربي في بلاده والحضارة التي أشادها على جماجم أبنائهم والمتاحف الزاخرة بآثار منهوبة من هذه المستعمرات ناهيك عن الثروات المسروقة التي تمّ استخدامها لبناء أوطان المستعمِر وإبقاء الشعوب المنهوبة في فقر مدقع لقرون. بل كانت هذه الجرائم وعلى مدى قرون مثار إشكال وجدل بين سكان المستعمرات أنفسهم فمنهم من أصبح ذهنياً ووجدانياً تابعاً للسيد ومطيعاً، أولاً من الخوف وبعد ذلك بحكم العادة، يدافع عنه ويعتبر بقاءه مرتبطاً بقوة السيد، ومنهم متمردون على الإرث الاستعماري برمّته ولكن دون عمل جدي ومجدٍ لتأريخ هذا الإرث وتشكيل موقف وطني ومن ثمّ أممي من هذا الإرث يُحسب له حساب.
قد تكون هذه بعض الأسباب التي لم تحسم المكانة الحقيقية للبلدان على الخارطة التاريخية والإنسانية والأخلاقية. وقد يكون خوف وصمت وتأرجح وفقر الشعوب المضطَهدة من الطغيان الغربي أحد أسباب عدم التوصل إلى هذا الحسم، الأمر الذي أوصل العالم اليوم إلى درجة غير مسبوقة من الطغيان تمارسها الدول الغربية دعماً لإرهابيين قتلة ينفذون حرب إبادة يومية منذ خمسة أشهر ضد المدنيين العزل في غزة على مرأى ومسمع العالم الذي يدّعي التحضر دون أن نشهد ثورة في الرأي العام ووقفة صادقة شامخة ومؤثرة فعلاً في مجرى الأحداث. لا نشهد حتى قولاً يليق بهول ما يجري إذا ما استثنينا اليمن والذي نفخر جميعاً أنه أصل العرب والعروبة وقد برهن أنه يستحق وبجدارة أن يكون الأصل والجذر والمتكأ.
بعد خمسة أشهر من شن الغرب برمّته حرب الإبادة على أناس عزّل أبرياء مُحاصَرين منذ 75 سنة وبعد استشهاد أكثر من خمسين ألف امرأة وطفل وتهجير أكثر من مليون إنسان وارتكاب أبشع المجازر بحق الأطباء والإعلاميين وحتى اقتلاع الأشجار وقتل الحيوانات واستهداف الأغذية والمنظمات التي كانت تُسمّى إنسانية كي يموت السكان جوعاً تستمر حرب الإبادة وكأن العالم برمّته لا يسمع ولا يرى ماذا يحدث لإخوته في الإنسانية. وتتمادى الولايات المتحدة وأخواتها في الغرب بإرسال المليارات من كل أنواع الأسلحة الفتاكة لتمكين أدواتهم الصهاينة من الاستمرار في ارتكاب هذه الإبادة البشعة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، على الأقل في القرون الأربعة الماضية. ويظن الآخرون في الشرق والجنوب والغرب وفي كل مكان أنهم في منأى ومأمن ممّا يحدث غير مدركين أن هذه الاستهانة بالبشر تنطبق عليهم كلهم جميعاً مع اختلاف التوقيت واللحظة المناسبة.
أهل فلسطين ولبنان واليمن والعراق الأبي لا يدافعون عن فلسطين فقط وسلامة الفلسطينيين بل يدافعون عن عالم يريدونه حراً من الاستبداد الغربي الاستعماري ويتصدون للطغيان الغربي الذي عاث فساداً في كل بلداننا التي كانت مستعمَرة ومن ثمّ غيّر أدواته دون أن يغيّر أهدافه باستهدافه لنا والاستهانة بنا وقتلنا جميعاً حينما تطلبت مصالحه ذلك. سكان المستعمرات الذين يعبّرون عن إعجابهم بما أنجزه الغرب لشعبه يجب أن يتذكروا أن هذا الإنجاز بُني على جماجم أبنائهم ونهب مقدراتهم، وأن الغرب يعامل أبناءه بطريقة مختلفة تماماً لن يعامل الآخرين بمثلها، وأكبر دليل على ذلك المهاجرين في فرنسا من المغرب العربي والذين هم اليوم في الجيل الثاني والثالث ومع ذلك مازالوا مواطنين من درجة ثانية أو ثالثة ولم ولن يتمّ منحهم مكانة الأوروبي الأبيض.
ولكنّ العدوان على غزة برهن شيئاً آخر أكثر خطورة على الأسرة الإنسانية وهو أن الولايات المتحدة تمسك الشأن الدولي بيدها فتعاقب من تريد وتفرض على الدول الأخرى أن يعاقبوا من تعاقبه وأن يقطعوا الصلات مع من تقطع الصلات معه وأن يتبعوا تصنيفها بالخير والشرّ والإرهاب وغيره، وإذا ما حاول البعض استصدار أي قرار في مجلس الأمن لإعادة الحق إلى نصابه فإن الفيتو الأميركي له بالمرصاد وهذا أخطر ما كشفه هذا العدوان أن الولايات المتحدة ومعها بريطانيا وفرنسا وألمانيا قد خطفت الإرادة الدولية واستبدّت بها وحوّلت الشعوب جميعها إلى عبيد يتبعون ما تقرّه الإدارة الأميركية التي تعلن مشاركتها الفعلية في حرب الإبادة ويختبؤون وراء خوفهم المزدوج: من فعل شيء أومن لا فعل شيء. وهذه هي حال العالم اليوم ولكنّ هذا الصمت والموت السريري لأي حركة عالمية في وجه استبدادٍ لم يسبق له مثيل في عصرنا الحديث يحوّل الجميع إلى عبيد غير قادرين على فعل شيء، وكل ما يقومون به هو أن يلووا رؤوسهم درءاً لها من أن تقع بهم الواقعة في المرة القادمة.
في هذا السياق والتحليل فإن الأحرار الوحيدين اليوم هم المقاومون لهذا الاستبداد الغربي والذين يتظاهرون ضده في الغرب ويرفعون أصواتهم في وجه المذيعين الغربيين ويقولون لهم: "عار عليكم، أوقفوا حرب الإبادة، فلسطين حرّة" ومع أن الشرطة تكمّ أفواه هؤلاء وتخرجهم من القاعة مكبلين بالأصفاد كي يستأنف المذيع الحوار مع نفسه فلا شك أن جميع السامعين يعرفون أن هذا هو الحق وقد تتحرك ضمائرهم ولا يبقون جالسين حين يعلمون أن قتل كل طفل فلسطيني بريء وامرأة فلسطينية بريئة هو انتهاك لكرامتهم الإنسانية ووعد لهم أنهم قد يواجهون المصير نفسه إذا ما تجرّأوا على التعبير عن آرائهم، ولهذا فإن صمتهم المطبق سيُحكِم الاستبداد حول أعناقهم ويجعلهم عبيداً لا حول لهم ولا قوة في أي شأن هم بصدد تنفيذه.
ومن هذا المنظور فإن مساندة فلسطين اليوم هي أول خطوة ضرورية لمواجهة نظام الاستبداد السياسي السائد حالياً في الغرب، والقائم على إطلاق يد المخابرات التي تدير الإعلام والأحزاب والبرلمانات والسياسيين حالياً، وتحدّي العبودية التي فرضها النظام الغربي المستبد على البشرية برمّتها من خلال التحكم بالقرار الدولي والترهيب لأي شخص أو بلد يمكن أن يتحدى أو حتى يعترض على قرارهم هذا؛ فإمّا أن تختار شعوب الأرض الحرية وتكون مستعدة لدفع أثمانها وإمّا أن تبقى في ربقة العبودية لطغاة الغرب مثل نتنياهو وبايدن وتتلقى أي ضربات قد يقرّر الطاغية توجيهها لها. هذه هي أكبر معركة تحرّر تخوضها البشرية في القرن الواحد والعشرين ولا شك أن نتائجها ستكون هامّة للجميع.
فهل تستمر دول العالم الكبرى بالتزام الصمت تجاه الاستبداد الغربي والارتعاد من الخوف أم تسارع كما سارع بعض الذين استوعبوا الدرس، مثل رؤساء كولومبيا وبوليفيا وفنزويلا والبرازيل، إلى الوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ؟ إنها ليست مسؤوليتهم اتجاه أنفسهم ولا حتى اتجاه بلدانهم فقط ولكنها مسؤوليتهم المهمّة والأكيدة اتجاه مستقبل البشرية ومستقبل هذا الكون الذي أورثنا إياه الخالق العظيم لنكون خليفة له في الأرض فهل نثبت أننا نستحق ذلك؟